كيف “لا تكتب خبراً”
الصفحة الرئيسية > أفكار > كيف “لا تكتب خبراً”
أتاحت تجربة رصد أداء وسائل الإعلام العراقية، خلال الأشهر الأربعة الماضية، التعرف على أجواء غرف الأخبار وصناعة التغطية الصحافية، لأحداث تعصف ببلد يكافح للخروج من أزماته المركبة.
أكثر ما جرى تأشيره هو المعيار السائد لتقديم “خبر” ما للجمهور، وكان معياراً تتداخل فيه قناعات وهواجس المحررين، بقواعد المهنة.
في كل هذا، ثمة محرر قلق متوجس يقرأ مواده الأولية بوعيه وعواطفه، يتفحص الحقائق للتأكد من أنها لا تخالف قناعاته الشخصية، أو أنها مصدر تهديد لإيمانه بالطريقة التي جرى بها الحدث، أو الطريقة التي يتمنى أن يكون عليه، وهي بالضرورة ليست كما جاءت من مراسله على الأرض. إنه بعد كل هذا القلق يضرب أزرار الحذف والإضافات بين معلومة وأخرى.. ثمة محرر يريد أن يكتب خبراً يستطيع أن يقرأه هو، ليتصالح مع نفسه، ويفترض بذلك جمهوراً مثله تماماً.
المحرر جندي مجهول.. نعم هذا صحيح، فلا نجومية سريعة يحصدها، ولا يمكنه مجاراة الصورة التي يظهر فيها المراسل على شاشات التلفاز، أو على صفحات الجرائد بوصفه بطل القصة، وصانعاً لها. المحرر، بمعنى آخر، رجل المكياج الذي يخرج من غرفته الممثلون جاهزين للعب أدوارهم، وبهذا المعنى أنه الرجل الذي يقف خلف الستارة، بعد نهاية العرض، يصفق لنفسه من دون أن يشاركه أحد التحية، سوى زملاء شهدوا له يوم عمل شاق في غرفة الأخبار.
وليس بهذا المعنى، المحرر جندي مجهول يحرم الجمهور من الحقائق، إنه يستبدل المعلومات بعبارات إنشائية يطويها ويلوي محتواها، ويستدرج معلومات مناقضة، حتى لا يضطر لسماع “شيء مختلف”.
أحياناً المحررون يصبحون الحزب، والحكومة، أو مركز شرطة يقبع بضباطه ومراتبه أمام جهاز الحاسوب.
يبدو مشهد ساعات العمل بين محرر ومادة “خام”، معقداً ومرتبكاً. يبدو، أيضاً، أن المحرر يمسك بفأرة حاسوبه يؤشر بلون ما معلومة استفزته، يتركها إلى حين يعثر على بديل للتخلص منها، وينشرها، ويتلقف الناس كل يوم قصصاً وأخباراً ينتهون منها بألف سؤال: ماذا ولماذا، وكيف؟ الجمهور يحصل على قناعاته من محرر بهاجس.
بالطبع، المحررون الحزبيون، والموظفون في مؤسسات الحكومة، لا ينطبق عليهم هذا الهاجس؛ لأنهم ببساطة يتقاضون رواتبهم لقاء تأشير المعلومات وحذفها كواجب “رسمي”.
لكن محررين آخرين يتوزعون بين غرف أخبار أقل صرامة، وفضاءات أوسع، ينصّبون أنفسهم البوابة “الأمينة” التي تخرج منها الأخبار. في الرصد الذي بدأ منذ أربعة شهور، كان ثمة قاسم مشترك بين كل التغطيات الإعلامية التي تابعت الحدث العراقي، كانت المعلومة الأساسية التي قامت عليها التغطية، ومن أجلها كتبت متابعات وتحليلات، تدفن في سلة مهملات حاسوب المحرر، وهو يبرع في تغطية ذلك بعنوان “ناري” يتحمس له الجمهور، وينسون معه الخبر.